فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{تمت} في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقًا وعدلًا، وليس بتمام من نقص، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل، والكلمات ما نزل على عباده، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {كلمة} بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن. وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك {كلماتُ} بالجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط {كلمات} بالجمع، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي بعيد معترض، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى: {صدقًا} فيما تضمنه من خبر {وعدلًا} فيما تضمنه من حكم، هما مصدران في موضع الحال، قال الطبري نصبًا على التمييز وهذا غير صواب، و{لا مبدل لكلماته} معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج} [التوبة: 83] إلى الخالفين، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه: {يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} [الفتح: 15] أو في قوله: {فقل لن تخرجوا معي أبدًا} [التوبة: 83] لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها، هذا مذهب جماعة من العلماء، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح، وفي حرف أبي بن كعب، {لا مبدل لكلمات الله}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}
قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع.
قال ابن عباس: مواعيد ربك، فلا مغيّر لها.
والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما.
قال قتادة: الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.
{صِدْقًا وَعَدْلًا} أي فيما وعد وحكم، لا رادّ لقضائه ولا خُلْف في وعده.
وحكى الرّمّاني عن قتادة: لا مبدلّ لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غيّر أهل الكتاب التوراةَ والإنجيل فإنه لا يعتدّ بذلك.
ودلّت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك} وقرئ كلمات ربك على الجمع فمن قرأ على التوحيد قال: الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال الشاعر في كلمته يعني في قصيدته، وكذلك القرآن كلمة واحدة لأنه شيء واحد في إعجاز النظم وكونه حقًا وصدقًا ومعجزًا ومن قرأ بالجمع قال لأن الله قال في سياق الآية: {لا مبدل لكلماته} فوجب الجمع في اللفظ الأول إتباعًا للثاني {صدقًا وعدلًا} يعني صدقًا فيما وعد وعدلًا فيما حكم وقيل إن القرآن مشتمل على الأخبار والأحكام فهو صادق فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية وعما هو كائن إلى قيام الساعة.
وفيما أخبر عن ثواب المطيع في الجنة وعقاب العاصي في النار وهو عدل فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام {لا مبدل لكلماته} يعني لا مغير لقضائه ولا رادّ لحكمه ولا خلف لمواعيده، وقيل: لما وصف كلماته بالتمام في قوله وتمت كلمة ربك والتمام في كلام الله لا يقبل النقص والتغيير والتبديل.
قال الله تعالى: {لا مبدل لكلماته} لأنها مصونة عن التحريف والتغيير والتبديل باقية إلى يوم القيامة وفي قوله: {لا مبدل لكلماته} دليل على أن السعيد لا ينقلب شقيًا ولا الشقي ينقلب سعيدًا، فالسعيد من سعدَ في الأزل والشقي من شقيّ في الأزل وأورد على هذا أن الكافر يكون شقيًا بكفره فيسلم فينقلب سعيدًا بإسلامه وأجيب عنه بأن الاعتبار بالخاتمة فمن ختم له بالسعادة كان قد كتب سعيدًا في الأزل ومن ختم له بالشقاوة كان شقيًا في الأزل والله أعلم.
وقوله تعالى: {وهو السميع} يعني لما يقول العباد {العليم} بأحوالهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا}
لما تقدّم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص، ناسب ذكر هذه الآيات هنا أي تمت أقضيته وأقداره قاله ابن عباس.
وقال قتادة: كلماته هو القرآن، وقال الزمخشري: كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد.
وقال الحسن: صدقًا في الوعد وعدلًا في الوعيد.
وقيل: في ما تضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيما قال: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزق وتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل، وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء {صدقًا وعدلًا} مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزًا وجوزه أبو البقاء.
وقال ابن عطية: هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولًا من أجله وليس المعنى في {تمت} أنها كان بها نقص فكملت وإنما المعنى استمرت وصحت كما جاء في الحديث: «وتم حمزة على إسلامه».
وكقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم} أي استمرت وهي عبارة عن نفوذ أقضيته.
وقرأ الكوفيون هنا كلمة بالإفراد ونافع جميع ذلك {كلمات} بالجمع تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا.
{لا مبدل لكلماته} أي لا مغير لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن فلا يلحقها تغيير، لا في المعنى ولا في اللفظ وفي حرف أبي لا مبدل لكلمات الله.
{وهو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم العليم بالضمائر. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده. {صِدْقًا} في الأخبار والمواعيد. {وَعَدْلًا} في الأقضية والأحكام ونصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له. {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا أحد يبدل شيئًا منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعًا ذائعًا كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن، فيكون ضمانًا لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها. وقرأ الكوفيون ويعقوب {كلمة ربك} أي ما تكلم به أو القرآن. {وَهُوَ السميع} لما يقولون. {العليم} بما يضمرون فلا يهملهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ}
شروعٌ في بيان كمالِ الكتابِ المذكورِ من حيث ذاتُه إثرَ بيانِ كمالِه من حيث إضافتُه إليه تعالى بكونه منزلًا منه بالحق، وتحقيقُ ذلك بعلم أهلِ الكتاب به، وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصلُ في الاتصاف بالصدق والعدلِ وبها تظهر الآثارُ من الحكم، وقرئ كلماتُ ربك {صِدْقًا وَعَدْلًا} مصدران نصبا على الحال وقيل: على التمييز وقيل: على العلة وقوله تعالى: {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} إما استئنافٌ مبينٌ لفضلها على غيرها إثرَ بيانِ فضلِها في نفسها، وإما حالٌ أخرى من فاعل تمت على أن الظاهرَ مغنٍ عن الضمير الرابطِ، والمعنى أنها بلغت الغايةَ القاصيةَ صدقًا في الإخبار والمواعيدِ وعدلًا في الأقضية والأحكامِ لا أحدَ يبدل شيئًا من ذلك بما هو أصدقُ وأعدلُ ولا بما هو مثلُه فكيف يُتصوّر ابتغاءُ حكمٍ غيرِه تعالى: {وَهُوَ السميع} لكل ما يتعلق به السمع {العليم} بكل ما يمكن أن يُعلم فيدخُلُ في ذلك أقوالُ المتحاكمين وأحوالُهم الظاهرةُ والباطنةُ دخولًا أوليًا، هذا وقد قيل: المعنى لا أحدَ يقدِر على أن يحرِّفها كما فُعل بالتوراة، فيكونُ ضمانًا لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} أو لا نبيَّ ولا كتابَ بعدها ينسخها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عز وجل بكونه منزلًا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به، وتمام الشيء كما قال الراغب انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه.
والمراد بالكلمة وأريد به كما قال قتادة وغيره القرآن، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر.
وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم.
وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه: {وَكَلِمَةُ الله هي العليا} [التوبة: 40].
وقيل: المراد بها حجته عز وجل على خلقه والأول هو الظاهر.
وقرأ بالتوحيد عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب، وقرأ الباقون {كلمات رَبَّكَ}.
{صِدْقًا وَعَدْلًا} مصدران نصبا على الحال من {رَبَّكَ} أو من {كلمات} كما ذهب إليه أبو علي الفارسي.
وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة؛ والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والأحكام {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها.
وقال بعض المحققين: إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالبًا كما قيل:
إذا تم أمر بدا نقصه ** توقع زوالًا إذا قيل تم

ذكر هذا احتراسًا وبيانًا لأن تمامها ليس كتمام غيرها.
وجوز أن يكون حالًا من فاعل {تَمُتْ} على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط.
قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون حالًا من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو {صِدْقًا وَعَدْلًا} إلا أن يجعلا حالين منه أيضًا.
والمعنى لا أحد يبدل شيئًا من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى.
والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقًا فلا يرد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق وإلا فكذب.
وذكر الكرماني في حديث: «أصدق الحديث» إلخ أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك، وقيل: المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعًا كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضمانًا منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9] أو لا نبي ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها.
وعيسى عليه السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئًا كما حقق في محله.
وقيل: المراد إن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول.
وزعم الإمام أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال: {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيدًا فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأنا أقول لا يخفى أن الشقي في العلم لا يكون سعيدًا والسعيد فيه لا يكون شقيًا أصلًا لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم.
وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم.
ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير إليه قوله سبحانه: {أعطى كُلَّ شيء خَلْقَهُ} [طه: 50] نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئًا وأفاض عليها عز شأنه ضده والله سبحانه أجل وأعلى من ذلك.
{وَهُوَ السميع} لكل ما يتعلق به السمع {العليم} بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولًا أوليًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}
هذه الجملة معطوفة على جملة: {أفغير الله أبْتغي حَكَما} [الأنعام: 114] لأنّ تلك الجملة مَقولُ قول مقدّر، إذ التّقدير: قل أفغير الله أبتغي حكمًا باعتبار ما في تلك الجملة من قوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلًا} [الأنعام: 114] فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلًا} [الأنعام: 114] ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنَّه من عند الله بقوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربّك} [الأنعام: 114]، أعلَم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة، ناهض الحجّة، على كلّ فريق: من مؤمن وكافر، صادق وعدُه ووعيده، عادل أمره ونهيه.